Rechercher dans ce blog

mardi 23 octobre 2012

هل مكتوب على معركة بنزرت أن تبقى مجهولة من الخاص والعام في العهود الثلاثة المتعاقبة منذ الاستقلال؟

تحرص الدّول المتحضرة والديمقراطيّة على تخليد وقائعها الحربيّة وتمجيد بطولات جيوشها بشتى وسائل التنويه والتذكير يقينا منها بقيمة الاعتزاز بالذات وبما يخلده ويرمز إليه ذلك الاعتزاز من نخوة وفخر ينصهر في وجدان شعوبها

فكثيرا ما ترى وأنت تتجوّل في ربوع مدنها وقراها تماثيل ونُصَب تذكاريّة تـُلفت الاهتمام إلى تاريخ وشجاعة وبسالة جنودها وتضحياتهم بساحة الوغى

لكن الوضع يختلف تماما في بلادنا التي لا تعير أيّ اهتمام إلى تاريخنا العسكري بما في ذلك الوقائع البطوليّة التي صمد فيها سلف التونسيين في وجه الغزو الاستعماري فكم ازدانت المدن والقرى التونسية لو خلدت المعارك التي دارت في نفزة وزوارة في بداية الاعتداء الفرنسي على التراب التونسي والمعارك التي وقعت في جبال بني مطير والمرائح وعمليات المقاومة التي نشطت في بن بشير حيث استبسلت قبائل خمير وعمدون وبوسالم والمعارك التي دارت في الكاف وطبرقة والقيروان وصفاقس حيث وقفت جموع المقاومين في وجه عمليات الإنزال التي عمد إليها الأسطول البحري الفرنسي واشتدّت المقاومة داخل المدينة وعلى مقربة من أسوارها والاشتباكات التي دارت في قابس وضواحيها (جارة والمنزل وسيدي بولبابة وشننّي) وتواصلت المقاومة الوطنيّة إلى سنة 1906 التي شهدت انتفاضة قبائل الفراشيش

كلّ هذه الوقائع خلدت مقاومة الشعب التونسي للغزو الفرنسي وكتبت تاريخا بأحرف من ذهب يحمل في طياته بسالة التونسي وتجذر الروح القتاليّة في طبعه ووجدانه وجرأته على مجابهة العداء وطاقته على دحر المعتدين الغاشمين مهما توفرت لديهم من آلات قمع واضطهاد فلا شكّ في الفائدة الكامنة في تخليد هؤلاء الأمجاد الجديرة بتجسيم مدلولها ورموزها في القرى والأرياف التونسية حتى لا يغمُر النسيان ثوابتها ووجودها في الذاكرة الوطنيّة. ونعود إلى معركة بنزرت التي شهدت أول ملحمة تولى تنفيذها والتعهّد بها الجيش التونسي الفتيّ وبصفة خاصّة ضباطه الشبّان الذين تصدّوا للهجمة الشرسة التي خطّط لها ونفذها الجيش الفرنسي بوسائله ومعدّاته البرّية والجوية والبحريّة وبفرق المظليين القادمين من الجزائر أين جرّبوا غرائزهم العدوانيّة في جميع المشتات والجبال الشاهقة والممتدّة في القطر الشقيق

فمعركة بنزرت هذه التي دامت أربعة أيام كاملة لا تقلّ أهمّية في نظرنا عن حرب الأيام الستة التي نشبت في مصر أرض الكنانة بين الجيش المصري وفيالق القوات الإسرائيليّة المدججين بأحدث الأسلحة والمعدّات

وقد خطط الأمرال أمان لنسج وحداته المدرعة والمزنجرة على منوال احتلال بورسعيد وبور فؤاد سنة 1967 حرصا منه على تلقين التونسيين درسا لجرأتهم على مقارعة الجيش الفرنسي والتصدّي له في ساحة الوغى غير مبالين بتفاوت آلتي القتال إذ شتان بين الأسلحة الخفيفة التي كان الجيش التونسي مزوّدا بها وبين العتاد الثقيل والمتطوّر الذي استعملته الوحدات الفرنسيّة الزاحفة على المدينة والمعززة بالمقاتلات والمطاردات الجوية وبالخصوص بالبوارج حاملات الطائرات القادمة من القواعد البحرية بتولون وبراست والمرسى الكبير بوهران

صمد زهاء التسعة مائة جندي وضابط صف بقيادة تسعة ضباط برتبة ملازم وملازم أول في وجه الغزاة معتمدين مناورة صائبة مكنتهم من إفشال خطّة العدو الهادفة إلى الضغط على المدافعين بواسطة ثلاثة محاور هجوم شمالا عبر وادي المرج والكرنيش ووسطا عبر طريق سيدي أحمد باب ماطر وجنوبا عبر الممرّ المائي وقد مهّدت معارك الكرّ والفرّ التي مارستها القوّات التونسيّة داخل المدينة ببنزرت ما نجح في تفعيله الملازم الأول سعيد الكاتب في مشارف مطار سيدي أحمد من مقاومة باسلة استهدفت مرابض الطيران الفرنسي تمكن بواسطتها من تدمير سبع طائرات خاصّة بنقل المظليين القادمين من الجزائر وملحقا بذلك خسائر بشريّة ومادّية في صفوف العدوّ ومبرهنا على شجاعة وبسالة الضابط التونسي عندما يعدّ نفسه لمجابهة التحدّي ودحر الاعتداء

إنّ معركة بنزرت نموذج حي للطاقات الكامنة في نفسيّة الجندي التونسي واستعداده اللامحدود لتلبية نداء الوطن كلّما شعر أنّ دمه وتضحياته مطلوبة دفاعا عن تونس ورفعا لرايتها بين الأمم. إنّها التضحية القصوى التي لا تضاهيها أيّ تضحية أخرى في أيّ ميدان من ميادين المبارزة أو صراع الإرادات. ويبقى على جمعية قدماء ضبّاط الجيش الوطني أن ترتب تنظيم منبر تسلط بواسطته أضواء كاشفة على هذه الملحمة التاريخيّة الحافلة بالدلائل والموعظات وبالخصوص تـُقرّ الحقائق النابعة من الأحداث كما يرويها ضباط عاشوا أطوار المعركة وسايروا وقائعها دون مبالغة ولا افتراء فقد قيل الكثير عن واقعة بنزرت وذهب بعضهم حتى إلى نشر كتب عن معركة لم يشاهدوها حتى في أحلامهم مستغلّين صمت الممثلين الحقيقيين وبالخصوص إحجام الأنظمة المتعاقبة عن كشف خفايا الواقعة وفتح استنتاجات البحث والتحقيق وذهب نظام الرئيس المخلوع إلى حدّ منع الضباط الذين عاشوا أطوار المعركة من الحضور بالنّصب التذكاري المشيّد بالمدينة في كلّ سنة محتفلا فيها الشعب بعيد الجلاء

الحديث عن رفع الرّاية التونسية وإعلاء تونس متداول في بلادنا لكن إقرار الدّور الذي لعبه الجيش التونسي والمقاومة المسلحة التي نشطت واستبسلت في الأرياف والجبال يمتاز بشحته بكلّ أسف وسوء تقدير لكن يبقى لنا في عهد الثورة الذي نعيشه أمل في إعادة الاعتبار للمؤسسة العسكريّة التونسية بفرعيها المرتجل زمن المقاومة والمنظم في عهد استرجاع السيادة وقيام الدولة الحديثة

وهذا ما نرجو أن يتجسم في التظاهرة التاريخيّة التي تعتزم تنظيمها جمعيّة قدماء ضباط الجيش الوطني حيث تتاح الفرصة لأوّل مرّة وبعد نصف قرن من هذه الأحداث للتونسيين والمؤرخين لمعرفة ما دار حقيقة ببنزرت ومشارفها أيّام 19 و20 و21 و22 جويلية 1961

العقيد متقاعد بشير بن عيسى


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire